هذا الأثر المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما يحمل دلالات عدة، نقتصر منها هنا على الحديث عن أهمية معرفة الوقف والابتداء في قراءة القرآن، وهو إحدى الدلالات المستفادة من هذا الأثر .
ووجه الدلالة فيما ذكرنا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يتعلمون الوقف والابتداء كما يتعلمون القرآن، هذا أولاً؛ وأيضًا فإن في قول ابن عمر رضي الله عنهما: (.. لقد عشنا برهة.. ) ما يفيد على أن ذلك كان إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم .
ويؤكد ما نحن بصدد الحديث عنه ما روي عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: { ورتل القرآن ترتيلا } (المزمل:4) قال: الترتيل: تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. وقال بعض أهل العلم في هذا المعنى: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء به .
وقد تواتر عن سلف هذه الأمة وخلفها تعلُّم هذا الفن، والاعتناء به أشد العناية، إذ من دونه لا يُفهم القرآن الفهم الصحيح، وبغيره لا يمكن استنباط الأحكام والمقاصد على وجه معتبر؛ ومن ثَمَّ اشترط أهل العلم على المجيز لقراءة القرآن ألاَّ يُجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء؛ وذلك لأهمية ما ذكرنا، واعتبارًا لما قررنا. وصح عن الشعبي أنه قال: إذا قرأت قوله تعالى: { كل من عليها فان } (الرحمن:26) فلا تسكت حتى تقرأ: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (الرحمن:27) ووجه النهي واضح، لما يترتب على ما ذُكر من فساد في المعنى، وهو ما ينبغي أن يُجلَّ القرآن عنه .
ومن هذا القبيل أيضًا، الوقف على قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } (البقرة:120) ومن ثَمَّ الابتداء من قوله: { ما لك من الله من ولي ولا نصير } (البقرة:120) ووجه فساد المعنى في حالة الوقف واضح، كما لا يخفي بأدنى تأمل .
ثم إن لأئمة هذا الشأن اصطلاحات خاصة في الوقف والابتداء، حاصلها أن الوقف على ثلاثة أوجه، وإن شئت قل: على ثلاثة أنواع: وقف تام، ووقف حسن، ووقف قبيح، وهاك شيئًا من التفصيل في ذلك:
فالوقف التام: هو الوقف الذي يحسن الوقوف عليه والابتداء بما بعده، ويكون ما بعده غير متعلق بما قبله، ويُمثل لذلك بقوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون } (البقرة:5) وقوله تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } (الأنعام:124) وهذا الوقف أكثر ما يكون عند رؤوس الآيات، وانتهاء القصص .
والوقف الحسن: هو الوقف الذي يحسن الوقوف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، ويُمثل له بقوله تعالى: { الحمد لله } (الفاتحة:2) فالوقف عليه حسن ومقبول، لأن المراد من ذلك يفهم؛ إلا أن الابتداء بما بعده، وهو قوله تعالى: { رب العالمين } (الفاتحة:2) لا يحسن، لكونه صفة لما قبله، فهو متعلق به، لتعلق الصفة بالموصوف؛ وكذلك الوقف على قوله تعالى: { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين } (الصافات:137) ثم الابتداء بقوله تعالى: { وبالليل أفلا تعقلون } (الصافات:138) لارتباط المعنى في الآية الثانية بما قبله .
أما الوقف القبيح: فهو الوقف الذي ليس بتام ولا حسن، ولا يفيد المعنى المقصود؛ ويُمثل لهذا النوع من الوقف بقوله تعالى: { فويل للمصلين } (الماعون:4) وقوله تعالى: { لا تقربوا الصلاة } (النساء:43) لما في ذلك من فساد في المعنى، ومخالفة لما هو من معهود الشرع الحنيف.
على أن للعلماء تقسيمات أُخر في هذا المجال، أعرضنا عنها، ونحيل طالبها إلى مكانها من كتب هذا العلم، إذ ليس هذا المقام مقاماً لها.
لكن من المفيد الإشارة هنا إلى مصطلح يُطلق عليه "الوقف الاضطراري" وهو مقابل لمصطلح "الوقف الاختياري" والمقصود من هذا المصطلح، أنَّ القارئ للقرآن الكريم إذا اضطر إلى أن يقف على موضع غير مناسب؛ لِضِيْقٍ في نَفَسه، أو انقطاع فيه، فإن له ذلك، لكن عليه أن يعاود الاستئناف من موضع يصح الابتداء به، ليستقيم المعنى، ويرتبط أول الكلام بآخره .
على أن الضابط في هذا الفن لَحْظُ المعنى، فهو المبتدأ وإليه المنتهى، فحيثما كان المعنى مستقيماً جاز الوقف أو الابتداء، وحيثما أدى الوقف أو الابتداء إلى فساد في المعنى وجب المنع من ذلك .
أما الابتداء فلا يكون إلا اختياريًا؛ لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة، فلا يجوز إلا بمستقل بالمعنى، وافٍ بالمقصود، وهو في أقسامه كأقسام الوقف المتقدمة.
ومن أهم الكتب التي كتبت في هذا الفن، كتاب "الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء" لمؤلفه ابن الجزري ، المتوفى (833هـ) رحمه الله .
ومن المناسب هنا، التنبيه إلى أن فن الوقف والابتداء لا ينبغي الاقتصار في تحصيله على ما جاء في مؤلفات أهل العلم، بل لابد - وهو الأهم - من تلقي هذا الفن عن أهل هذه الصناعة وأربابها، إذ عليهم التعويل في هذا الشأن أولاً وآخراً، وإليهم المرجع في ضبط وإتقان هذا الفن .